“هبة الكرامة” ومحاولات تحدي سياسات المحو والضبط والاحتواء
[ad_1]
في دراسة عن “هبة الكرامة في الداخل الفلسطيني” نشرت في مجلة “عمران” الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات وستصدر قريبا في كتاب عن مركز “مدى الكرمل”، يوظف خالد عنبتاوي مصطلح “العتبة” في توصيف وضعية فلسطينيي الداخل (الفلسطينيين في إسرائيل) وفهم هباتهم الوطنية من يوم الأرض وحتى “هبة الكرامة” في أيار/ مايو 2021.
تغطية متواصلة على قناة موقع “عرب 48” في “تليغرام”
وتوضح الدراسة أن وضعية “العتبة” تلك نشأت كنتيجة مباشرة للنكبة ونتيجة للسياسات الإسرائيلية الاستعمارية بعدها أيضًا؛ إذ شكّلت موقع الفلسطينيّين في النظام الإسرائيلي من جهة (على عتبته) لكونهم جزءًا من واقعه المدني، وموقعهم في المركز السياسي والوطني الفلسطيني (على عتبته) لكونهم جزءًا من الشعب الفلسطيني وقضيته من جهة موازية. وإذا كانت “الهوية الحدّية” مسارًا بينيًّا بين فقدان هوية ما واستقبال هوية جديدة ذات معنى، فهي ربما حالة يقيم في إطارها الفلسطينيون في الداخل منذ النكبة.
يتخلل هذه الوضعية الحدّية حالة من التفاوض والاحتواء والمقاومة معًا من جهة المؤسسة الاستعمارية في محاولة لضبطها بسياسات من الاحتواء والمحو والضبط معًا، أو من جهة المجتمع الفلسطيني وبعض نخبه، في محاولات لاجتراح مسارات للتحرر منها من خلال إعادة تعريف فلسطينيّته ونضاله، في إطار خصوصية واقعه المدني؛ بوصف ذلك جزءًا من مشروع وطني، لا على حسابه.
وتنطلق تقنيات الحكم الإسرائيلي تجاه الفلسطينيّين في الداخل من فهم أساسي وتاريخي لهذه الجماعة باعتبارها جماعة فلسطينية لا يمكن احتواؤها على نحو كامل في الفضاء الإسرائيلي، وذلك بسبب طبيعته الاستعمارية وتطابق الدولة الأمة والقومية والدين في إسرائيل؛ إذ لم تنشأ أمة قائمة على المواطنة في الدولة الإسرائيلية، بل الأمة السياسية هي اليهودية فحسب. ومن ثمّ، فإنّ الهوية الإسرائيلية الكاملة هي الهوية اليهودية، ومن خلال هذا المنظور، لا يمكن أن تكون تقنية الاستيعاب كاملة في ظروف فلسطينيّي الداخل.
بالمقابل، ومن خلال المنظور الإسرائيلي العنصري، لا يمكن “السماح” للفلسطينيّين في الداخل بأن يتشكّلوا بوصفهم جماعة قومية وجزءًا من مركز سياسي فلسطيني جامع، وأيّ محاولة كهذه “لا بد” من أن تُمنع إسرائيليًّا باعتماد السياسات والقانون.
وفي هذا الإطار تعمل السياسات الاستعمارية باستمرار على قضم هامش العمل والفعل السياسي والثقافي لِلَجم إمكانية تنظيم الفلسطينيّين في الداخل قوميًّا بوصفهم جزءًا من شعب وجماعة سياسية مرتبطة بسؤال فلسطيني، لما يشكّله ذلك من تهديد للنظام الإسرائيلي، وبسبب طبيعته اليهودية – الاستعمارية. وقد شكّلت هذه القناعات الإسرائيلية ثابتًا في السياسة تجاه فلسطينيي 48 لم يتغيّر حتى اليوم، وهو ما وضعهم في فضاء حدّيٍّ من العتبة. ويسعى النظام الإسرائيلي بتغذية هذه العتبة لاحتواء نتائجها وضَبْطها من دون أن تنتج فعلاً مقاومًا أو مناهضًا، وذلك ضمن أنماط متغيّرة من سياسات الضبط والمحو والاحتواء في الوقت ذاته. وإن كان منطق السياسات ثابتًا، فإن أنماطها تتغيّر عبر الحقب المختلفة.
في مثل هذه الظروف، تنشأ وتتطوّر الهبّات الفلسطينية التي تعبّر عن انتماء الفلسطينيّين في الداخل إلى قضية فلسطين بوصفها جزءًا من قضيتهم، لكنّ الظرف المرّكّب الحدّي ذاته في الداخل، يشكّل عائقًا لاستمراريتها، ويكون “قادرًا” على احتوائها والحد من طول نَفَسها أو تسييسها؛ لإلقاء الضوء على الدراسة أجرينا هذا الحوار مع الباحث خالد عنبتاوي.
“عرب 48“: إذن وضعية العتبة تلك هي ليست نتاج حدث سياسي وقع عام 1948 فقط، هو النكبة، بل هي أيضا نتيجة فعل سياسي إسرائيلي تراكمي يسعى إلى إبقائنا في هذه الوضعية؟
عنبتاوي: صحيح، إذ إن السياسة الإسرائيلية تجاه فلسطينيّي الداخل، تنطلق ضمن ما تصفه الدراسة بـ”ثالوث جدلي”، من تقنيات المحو والضبط والاحتواء، وتسعى المؤسسة لضبط العتبة ضمن هذه التقنيات التي تتطوّر أنماطها في الفترات المختلفة، ويتأثر الداخل وفعله السياسي وحراكه الانتفاضي من هذا الواقع ومن هذه السياسات، بثابتها ومتغيّرها؛ وفي حين تؤدي تقنيات الضبط والمحو إلى إضعاف المركز السياسي والمؤسسات في الداخل، ومن ثمّ ضرب البنى التحتية القادرة على تعزيز صمود الهبّات واستثمارها وتطويرها إلى حالة دائمة، تتقاطع منظومة الاحتواء الإسرائيلية وتتكامل معها؛ وتعمل على عرقلة إمكانية تطوير حاضنة اجتماعية مستدامة لحالة الهبّة والاحتجاج في الداخل.
هي إشكالية أو حالة أزمة وجد فلسطينيو 48 أنفسهم فيها منذ النكبة، نتيجة واقعهم المركب من حيث أن حياتهم المادية يتم إنتاجها في واقع إسرائيلي رغم انتمائهم الوطني الفلسطيني، وهذه “العتبة” هي التي تجعلهم ينتفضون ضد واقعهم التحامًا بشعبهم الفلسطيني في هبّات وانتفاضات من جهة، لكن هي ذاتها التي تحدّ من إمكانات تأسيس بنية تحتية تطيل أمد الهبّات وصولا إلى الالتحام الشامل.
لذلك شكلت العتبة، ولا تزال، تحديًا مركزيًا لديمومة حالة الحراك والصيرورة الانتفاضية في الداخل، وربما كان هذا هو السبب الذي جعل نَفَس الهبّات قصيرًا؛ إذ شكّل غياب بنى تحتية ومقومات صمود من مركز اقتصادي مستقل، أو شبه مستقل، فضلاً عن مركز سياسي وطني جامعٍ قويٍّ ومنتخبٍ، تحديًا كبيرًا لجميع هبّات الداخل منذ يوم الأرض وحتى هبة الكرامة، وقد أشار العديد من الباحثين إلى أن الهبات ليس أنها كانت قصيرة فقط، بل طالما أعقبها حالة جزر سياسي أيضا.
“عرب 48“: وهذا ما حدث في الهبات التي شهدها الداخل الفلسطيني من يوم الأرض وحتى هبة الكرامة؟
عنبتاوي: يوم الأرض في آذار/ مارس عام 1976، كان التمثّل الأول والأبرز للفلسطينيّين في الداخل بوصفهم جماعة سياسية قومية جرى التعبير فيه عن حالة غير مسبوقة من الرفض والإضراب والتظاهر، لكن في المقابل، أعقبت الهبّة ذاتها حالةٌ من النكوص والتراجع، تمثّلت في الخوف من إعادة إعلان الإضراب مجددًا حتى عام 1982.
وفي هذا السياق، يشير العديد من الباحثين إلى حالة الخوف التي أصابت غالبية القيادات السياسية، ولا سيما قيادات الحزب الشيوعي حينئذ من حالة الربط بين يوم الأرض والداخل ومنظمة التحرير الفلسطينية، وهي حالة خوف وتردّد تعكس أزمة العتبة التي يتموضع فيها المركز الوطني الفلسطيني في الداخل، خاصة في مستوى العلاقة مع النظام الإسرائيلي، ومستوى العلاقة مع المركز الوطني الفلسطيني الجمعي.
أما في “هبّة أكتوبر” عام 2000، والتي وصفت بأنها الانتفاضة السياسية الأولى للداخل الفلسطيني؛ إذ إنها لم تندلع لسبب مطلبي – مدني مباشر، بل عبرت عن انتماء تجذّر وترسّخ في المجتمع الفلسطيني لدى الشباب خاصة، فقد ظهرت أنماط احتجاجية وطنية عقبتها حالة من “الجزر السياسي”، مرده أساسا إلى الظروف المادية لفلسطينيّي الداخل وضعف المؤسسات المستقلّة عن الواقع الإسرائيلي، الأمر الذي يعيق إمكانية بناء مقومات صمود للهبّات تستطيع مداومة الانتقال من الصمود الساكن إلى الصمود المقاوم.
ولكن بالرغم مما شكّلته الهبة من فصلٍ جديد للفلسطينيين في الداخل من حيث علاقتهم بالنظام الإسرائيلي، وما حققته من منجزات سياسية على مستوى رفض حالة الخضوع والأسرلة وربط مسألة الداخل الفلسطيني بسؤال فلسطيني أعمّ وأشمل وما يترتب عليه على مستوى الوعي الجمعي، فإنّ غياب المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية وضعف المؤسسات الوطنية الجامعة كان عائقًا مركزيًا لإمكانية صمود الحالة الانتفاضية أكثر من بضعة أيام، خاصة بعد اشتداد العدوان الإسرائيلي، وما وُصف بـأنه “خوف بعض السياسيين من قوّة شعبهم”.
“عرب 48“: أشرت إلى فوارق بين الهبات الرئيسية الثلاث، يوم الأرض، هبة أكتوبر وهبة الكرامة، ما الذي ميز الهبة الأخيرة بالذات؟
عنبتاوي: أولا، يوم الأرض يختلف عن الهبتين الأخريين بأنه حدث وطني مستقل فجرته جماهيرنا في الداخل، ثم تحول لاحقا إلى حدث فلسطيني عام، أما هبة أكتوبر وهبة الكرامة فقد شكلتا التحاما مع نضالات شعبنا.
ورغم أن الهبات الثلاث شملت مختلف مواقع وقطاعات جماهير شعبنا في الداخل، فيمكن التبين أن يوم الأرض تركزت أحداثه أساسا في منطقة الجليل، بينما تركزت احداث هبة أكتوبر (انتفاضة الأقصى) في الجليل والمثلث وتركزت أحداث هبة الكرامة في النقب والمدن المختلطة، ويرجع ذلك إلى أن هاتين المنطقتين هما الأكثر استهدافا في السنوات الأخيرة، من حيث مصادرة الأرض والتهويد.
فإلى جانب سعي المؤسسة إلى إغلاق ملف القرى غير المعترف بها في النقب من خلال سياسة التجميع والاستيلاء على الأرض، انتشرت في العقدين الأخيرين دعوات قطاعات يمينية فاشية للاستيطان في “المدن المختلطة”، بوصفها جزءًا من عملية تهويد المدن المختلطة التي شهدت هجرًةً عكسية من اليهود، خاصة مع خروج عدد منهم للسكن في بلدات أكثر تطورًا، وكان مشروع “النواة التوراتية” المثال الأبرز على امتداد مشروع الاستيطان من جديد إلى داخل أراضي 48.
“عرب 48“: لقد كانت فكرة هذا المشروع بمثابة تمدد للاستيطان القائم في الضفة الغربية، بتركيبته المادية والبشرية، إلى قلب المدن المختلطة المأهولة بالعرب، ولم يخف أهدافه بـ”تنظيف” هذه المدن منهم؟
عنبتاوي: فكرة النواة التوراتية بدأت بدعوات من رجال دين من الصهيونية الدينية للاستيطان في المدن الفلسطينية التاريخية ضمن مشروع التهويد. ويبدأ الاستيطان، عادةً، بمجموعة من العائلات التي تنتقل للعيش في المدن وإقامة مدارس دينية وكنس ومكتبات ومرافق خدمات تابعة لها لبلورة “جماعة أهلية” متطرفة في المدينة، وقد شكّلت هذه الجماعات عاملَ جذبٍ لمستوطنين من الشباب من مناطق الضفة الغربية في العقدين الأخيرين.
وقد استشرى هذا النمط من الاستيطان في اللد خاصةً، ويافا وعكا كذلك، خلال تلك الفترة، وانتقال عائلات يهودية من المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967، خاصة بعد خطة فكّ الارتباط عن غزةّ 2005)) ضمن ما أطلق عليه “الاستيطان في القلوب”، وقد ظهر الاحتكاك بين هذه المجموعات والسكان الفلسطينيّين، ولا سيما بشأن قضايا الأرض والسكن، وذلك بعد مشاريع إقامة بعض الأحياء الخاصة لهذه الجماعات – “اليشيف” مثالاً في اللد، أو صفقة بيع دائرة “أراضي إسرائيل” أرضًا بـ7 دونمات بالنسبة إلى النواة التوراتية في المدينة.
كما أن المشروع الاستيطاني للنواة التوراتية معزولاً عن محاولات حسم مسألة الأراضي في النقب وعن صعود جمعيات يمينية وسياسات إسرائيلية استهدفت الوجود العربي في الداخل مركزة على قضيتَي الأرض، وما اعتبرته “إنفاذ القانون” في بلدات الداخل عامةً، ومنطقة النقب خاصةً.
وقد عمقت هذه التحولات والممارسات صورة النظام الإسرائيلي بوصفه نظامًا يحكمه منطق المحو في كل فلسطين وعلى طرفَي الخط الأخضر، وإن اختلفت أنماط هذه الممارسات، فإنها ساهمت في تلاشي الخط الأخضر في المخيال الفلسطيني؛ ويسرت بالتالي عملية التنسيق بين الحركات الشبابية في الهبّات الأخيرة، واجتراح خطابٍ يوحّد فلسطين بين طرفَي الخط الأخضر أشد بروزًا من قبل، كما جعلت هذه التحولات مناطق النقب واللد أكثر المناطق حضورًا في الهبّة الأخيرة، وأشد اشتباًكًا مع المستوطنين فيها.
“عرب 48“: بالتوازي مع انزياح جغرافية الهبة نحو الجنوب – النقب والمدن المختلطة (مدن الساحل الفلسطيني) انتقلت المواجهات لتشمل المستوطنين في هذه المدن أو هو عامل جديد لم يكن حاضرا في يوم الأرض وهبة أكتوبر؟
عنبتاوي: يمكن القول إن تعزيز الاستيطان في مدن الداخل المختلطة والنقب قد ساهم في إعادة إنتاج العلاقة مع “اليهودي الجديد” في هذه المناطق، بوصفه مستوطنًا وجزءًا من مشروع تهجير ضد السكان الأصليين، وقد برز ذلك على نحو واضح في الخطاب الاجتماعي – السياسي – الإعلامي للناشطين والأهالي، الذي هيمن في أثناء الهبّة، خاصة داخل هذه البلدات.
كذلك انتقل نمط الاشتباك في هذه الهبّة من اشتباكٍ شبه حصري مع قوات الاحتلال والشرطة، مثلما حصل في هبّة أكتوبر 2000، إلى اشتباك شبه يومي في المدن المختلطة مع ناشطين وقياديين في “النواة التوراتية” والمستوطنين الجدد القادمين بمعظمهم من مناطق الضفة الغربية.
ومن المعروف أن الشاب موسى حسونة قد استشهد برصاص مستوطنين من اللد، وقد أدى استشهاده إلى ازدياد زخم الهبة وتوسعها في بلدات الداخل، خاصة بعد أن أُطلق سراح المشتبهين في إطلاق النار في اليوم التالي بدعوة من معظم السياسيين الإسرائيليين.
كما شكلت مهمة حماية الأحياء العربية والدفاع عنها في وجه الهجمات المنظّمة هي المهمة الأساسية للنشاط، وقد كانت هجمات العناصر اليمينية والاستيطانية منظّمة على أحياء عربية في المدن المختلطة، وبعضها جرى أمام أعين الشرطة.
“عرب 48“: على مستوى الخطاب السياسي شكلت هبة الكرامة ارتفاعا ملحوظا في سقف هذا الخطاب، حيث ظهرت مفردات مثل “وحدة الساحات” و”وحدة الوطن”، في وقت اشتعلت ساحاته من القدس وجنين إلى اللد ويافا وحيفا؟
عنبتاوي: طغت مصطلحات “الكرامة والوحدة” على خطاب الهبّة الاجتماعي والسياسي وشكّلت فضاءً لاستعادة إرادة سياسية جامعة ترى فلسطين واحدة، بصرف النظر عن سؤال الدولة، وتنطلق قاعديًّا من الشارع، ومن خارج المركز السياسي الحزبي الفلسطيني؛ إذ أخذت هذه الحركات، التي بدأت تتشكّل في البلدات العربية على إثر الأيام الأولى للهبّة، دورًا فاعلاً في الأحداث، وفي الإضراب الذي تلاها، وفي أسبوع الاقتصاد الوطني.
وبالإمكان تلمّس مجموعة مبادرات وخطابات، نُشرت ونُظمت خلال الهبّة وبعدها، ترى فلسطين بعين واحدة، بعض المنشورات كانت مجهولة المصدر، وجرى تداولها على نحو واسع في وسائل التواصل الاجتماعي، ووُزّعت في الشوارع والبيوت، وقد ساهمت، على نحو ما، في تأطير الهبّة بوصفها هبّة سياسية من أجل الكرامة في الوطن وأملًا في استعادة وحدوية السؤال الفلسطيني في وجه واقع شديد التجزئة سببُه الاستعمار.
“عرب 48“: لوحظ في هبة الكرامة، بعكس سابقاتها، تراجع لدور الأحزاب مقابل دور الحراكات السياسية والاجتماعية وهو ما أشرت إليه في الدراسة؟
عنبتاوي: لقد تميّز تنظيم الهبّة الأخيرة باللامركزية، وضعف التأثير الحزبي التقليدي، وربما كان اختلاف توقيت الإضراب بين الهبتين مؤشرًا دالًّا على ذلك، ففي حين فتح الإضراب هبّة القدس والأقصى عام 2000 بعد إعلانه على يد لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في الداخل قبل اندلاعها بيوم، كان إعلان الإضراب في الهبّة الأخيرة إغلاقًا واختتامًا للهبّة في الشارع؛ إذ جرى إعلانه بعد أسبوع من اندلاعها.
ومعلوم أن هبّة الكرامة جاءت مراكمةً لصيرورة انتفاضية من الهبّات التي اجترحها شباب الداخل، مثل حراك “30 آذار”، وحراك “برافر” الذي أسقط “مشروع برافر” الاقتلاعي عام 2013، وهبّة أبو خضير، وغيرها من الهبّات الشبابية التي بنَت ذاكرة من الرفض والأمل والنجاح في بعضها، ورسّخت نمطًا جديدًا مختلفًا عمّا عرفه الداخل الفلسطيني قبل أكثر من عقدين، فهي تتميز بأسلوب العمل القاعدي الذي يفرض الشارع وتيرته من خارج دائرة القرار الحزبي المركزي.
هذا لا يعني أن الأحزاب كانت غائبة تمامًا عن الهبّة، لكنها سارت بمسارٍ مناقض للحزبية وأفصحت عن نمط مختلف من التنظيم في الميدان ودور التنظيم الحزبي المركزي فيه، وإن كان ذلك هو جزء من تحوّل عالمي، لكن بالمقابل، لا يمكن فصل هذه التحولات عن أسباب موضوعية – محلية متصلة بتأثير السياسات الإسرائيلية تجاه التنظيم الحزبي الوطني في الداخل، فبعد أن قضمت القبضة الأمنية – السياسية الإسرائيلية مساحات من العمل السياسي لبعض الحركات والأحزاب من خلال الملاحقة، برز شكل مختلف من العمل السياسي أخذ يتطوّر في نمط الاحتجاج السياسي ليأخذ شكل الحراك – لا الحركة – الذي يأتي من خارج التنظيم الحزبي المركزي، وإن لم يكن مناقضًا له بالضرورة. لقد برز هذا النمط في محاولات البحث عن هوامش وفضاءات جديدة من العمل السياسي أكثر ديناميكية ومرونة للصمود أمام القمع الإسرائيلي.
*خالد عنبتاوي: مرشّح لنيل درجة الدكتوراه من معهد جنيف للدراسات العليا في سويسرا، في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا. باحث وناشط سياسيّ، نُشرت له مقالات ودراسات في عدد من المنصات الأكاديمية والإعلامية حول: سوسيولوجيا الهويّة والذاكرة، الاستعمار الاستيطاني، المجتمع الفلسطيني، الصهيونيّة والحركات الاجتماعيّة.
[ad_2]
Source link