شبح قرية تومكين الروسيّة يحوم في قلاع الغرب
[ad_1]
الرصاصة الّتي أخطأت جمجمة دونالد ترامب، يوم السبت الماضي، أثناء إلقائه خطابًا في مهرجان انتخابيّ، ستصبّ المزيد من الوقود على حالة داخليّة باتت تفتك فيها أمراض الإمبراطوريّة. وبدل أن تغيّبه عن المشهد السياسيّ، بات من شبه المؤكّد أن يعود رئيسًا لأميركا، ومعه برامجه وسياساته الشعبويّة العنصريّة ذات التأثير الداخليّ والخارجيّ، الأمر الّذي يعمّق هذه الأمراض وأعراض التراجع. هذا ما يتّفق عليه غالبيّة المحلّلين والمراقبين. وللمفارقة، فإنّ هذا الشعبويّ الّذي حرّض بصورة منهجيّة على العنف ضدّ خصومه وضدّ الأقلّيّات والمهاجرين، ومارس العنف والبلطجة، يتعرّض الآن لارتدادات هذا العنف.
ولكن ما كان لافتًا وما عبّر عنه في فترة رئاسته، هو إقدامه على فضح جوانب خطيرة في الإمبراطوريّة الأميركيّة، تحديدًا حروبها التوسّعيّة والدمويّة اللانهائيّة، وانتقد عبيثة هذه الحروب. والجديد في هذا النقد هو صدوره من شخصيّة يمينيّة. طبعًا، ليس نقده مردّه حرصه أو حساسيّته تجاه حقوق الإنسان وكرامته وحقوق الشعوب، أو لمبادئ الديمقراطيّة والعدالة، بل إلى حسابات اقتصاديّة صرفة، كونه رجل أعمال وتاجرًا، وليس للأخلاق وزن في اعتباراته.
هذا النقد لحروب الإمبراطوريّة الأميركيّة لنهجها الإمبرياليّ الهمجيّ، كان يأتي عادة من اليسار الراديكاليّ تحديدًا، مع أنّ المنطلقات الأيديولوجيّة لليمين واليسار هي على طرفي نقيض. ويعزو المحلّلون صعود ونموّ اليمين الشعبويّ واليسار الشعبويّ على حساب يسار الوسط ويمين الوسط اللّذين انجرفا إلى مستنقع النظام النيوليبراليّ الّذي تقوده الإمبرياليّة الأميركيّة، يعزونه إلى أزمة هذا النظام الرأسماليّ المتوحّش الّذي تتعمّق أزماته بصورة متسارعة. ويكتب محلّلون غربيّون من خلفيّات فكريّة مختلفة، ومنذ سنوات طويلة، أنّ الديمقراطيّة الليبراليّة الغربيّة باتت مهدّدة مع تغوّل سيطرة الشركات الكبرى على مؤسّسات الحكم والسياسيّين. وظهرت أطروحات في العقدين الماضيين، مثل “موت الديمقراطيّة” و”موت السياسة” وغيرها من التنظيرات الديستوبيّة.
يرى الدبلوماسيّ الإيطاليّ السابق والمثقّف ماركو كارنيلوس، أنّ صورة الغرب المزيّفة للواقع تنهار. ففي أحدث مقال له لموقع “ميدل إيست آي” بتاريخ 11 تمّوز/ يوليو الجاري يكتب إنّ “لسنوات طويلة بنت الديمقراطيّات الغربيّة قرية بوتمكين الخاصّة بهنّ، لدعم سياسات وسرديّات منفصمة عن الواقع. واليوم يؤطّرون كلّ شيء كنضال ملحميّ بين الديمقراطيّة والثيوقراطيّة. ولكنّ قرية بوتمكين خاصّتهم تنهار تدريجيًّا، والإشارات لذلك جليّة”.
وقصّة قرية بوتمكين تعتمد لوصف القرى الزائفة الّتي بنيت للإبهار فقط. وتبعًا للقصّة، الّتي تعود إلى أواخر القرن الثامن عشر، فقد أنشأ القائد العسكريّ الروسيّ غريغوري بوتمكين، العاشق السابق للملكة كاترين الثانية، مستوطنات أو قرى زائفة في منطقة القرم على جانبي ضفّتي نهر الدنيبر أثناء رحلتها إلى هناك. وتضيف القصّة أنّ بوتمكين كان يأمر بتفكيك مجسّمات القرية وإعادة تركيبها في موقع آخر في مواكبة مستمرّة لرحلة الإمبراطورة. ومع مرور الزمن تحوّلت القصّة مثلًا أدبيًّا وسياسيًّا عالميًّا، بحيث أصبح بناء قرية بوتمكين يشير إلى أيّ بناء يكون له غاية وحيدة، وهي الإبهار عن طريق وضع واجهة مخادعة للبلد لتزييف الواقع وإيهام المواطنين بأنّ البلد بخير.
ويقول كارنيلوس إنّ الحزب الديمقراطيّ صور ترامب بأنّه غير مناسب للرئاسة، في حين أخفوا السقطات الذهنيّة لمرشّحهم جو بايدن، وهي الّتي كانت موضوع نقاش على مدار السنوات الماضية داخل الحزب وخارجه. ويدعم ذلك بالإحالة إلى ما كتبته صحيفة “وول ستريت جورنال”: “إنّهم يقومون بخداعنا وتضليلنا منذ سنوات، وكلّ ذلك باسم الديمقراطيّة. لقد اعتقد الديمقراطيّون أنّهم يستطيعون المضيّ قدمًا بعمليّة التغطية على عجز بايدن، دون أن ينكشفوا. إنّهم بذلك كشفوا عن احتقارهم لمصوتيهم، وللديمقراطيّة نفسها”.
ويضيف هو نفسه “إنّ الإنسان العاقل وغير المغفّل يستطيع أن يسأل السؤال من المسؤول عن ذلك؟ الجواب القاطع هو حفنة من المتبرّعين والبيروقراطيّين في واشنطن. هذه ليست ديمقراطيّة ليبراليّة، بل أولغارشيّة منافقة. لن يستطيعوا الاستمرار بالادّعاء بأنّهم يسعون إلى إنقاذ الديمقراطيّة من خطر دونالد ترامب، لأنّهم هم أنفسهم يمارسون مهزلة الديمقراطيّة”.
ويرى هذا الدبلوماسيّ أنّ هذا التضليل والخداع لا يقتصر على الولايات المتّحدة، بل يمتدّ إلى أوروبا، مشيرًا إلى ما حصل في الانتخابات الأخيرة، وإلى الموقف من جريمة الإبادة في قطاع غزّة، وكذلك من الحرب الروسيّة – الأوكرانيّة الكارثيّة، الّتي تسوّق فيها كذبة تأثير العقوبات الاقتصاديّة على روسيا، الّتي ارتفع دخل الفرد فيها، وفقًا لتقرير البنك الدوليّ، رغم الحرب.
وفي مقال ظهر قبل أيّام، في موقع “تروث ديغ” (truth dig) المستقلّ، تحت عنوان “إنّه المال الكبير”، يستشهد الكاتب بما قاله الرئيس الأميركيّ على الهواء، عن سيطرة رجال الأعمال على الحزب الديمقراطيّ وممارسة الضغط عليه للانسحاب من السباق. وكان بايدن قد قال “إنّني محبط جدًّا من النخبة، نخبة الحزب، ولا أكترث بما يفكّر به أصحاب المليارات”.
ويعلّق كاتب المقال، روبارت رايش، “إنّها المرّة الأولى الّتي يقدم رئيس أميركيّ على الاعتراف بأنّ نخب الحزب الديمقراطيّ هم أصحاب الملايين والمليارات، الّذين يموّلون الحزب ودعايته الانتخابيّة”. ويضيف أنّ “كلّ هذا يؤكّد ما قلته على مدار سنوات طويلة، أنّ القوّة السياسيّة الحقيقيّة في الولايات المتّحدة، بغضّ النظر عن أيّ من الحزبين الكبيرين، تكمن في المال الكبير”.
وعودة إلى الدبلوماسيّ الإيطاليّ، وهو في مقاله يعكس مناخًا نقديًّا للإمبراطوريّة آخذ في الاتّساع داخل الولايات المتّحدة وخارجها، ويقول إنّ الواجهة المزيّفة تتصدّع وتنكشف الأكاذيب كلّ يوم. ويرى أيضًا تبعًا لذلك أنّ “قرية بوتمكين الإسرائيليّة بدأت بالانهيار، وحتّى الجمهور الغربيّ بدأ يدرك أنّ مقولة حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها ليس إلّا رخصة لمواصلة تنفيذ جرائم انتقاميّة مروّعة”.
يظلّ السؤال حول كيف سيكون تأثير ترامب على نتائج حرب الإبادة الصهيونيّة إذا فاز بالرئاسة، وهو أمر بات شبه مؤكّد، إذا لم يحصل طارئ أو مستجدّ دراميّ. لا أحد يستطيع التنبّؤ بذلك، لأنّ ترامب لا يريد حروباً في العالم، ولكنّ إسرائيل تظلّ مستثناة، لأنّها تحوّلت إلى ديانة لدى الحزبين.
ولكن هناك من يعتقد أنّه من غير المحتمل أن يستطيع ترامب التأثير على نتائج الحرب، أو يغيّر مصير إسرائيل. إنّ إسرائيل غير قادرة على كسب الحرب، وفق ما أعلنته من أهداف عسكريّة وإستراتيجيّة، ولا قادرة على تغيير قواعد الاشتباك مع المقاومة اللبنانيّة. هناك أيضًا الانقسام الداخليّ والاستقطاب الّذي يشتدّ دون أفق للخروج منه. ولن يستطيع لا بايدن ولا ترامب المساعدة في جسر الفجوات الداخليّة العميقة.
ويقول البعض إنّ هذا الدعم المطلق العسكريّ والسياسيّ الأميركيّ لإسرائيل قد يكون عاملًا مساعدًا على انهيار الإمبراطوريّة. وترى الأستاذة الجامعيّة والناشطة الأميركيّة، نينا فارنيا، أنّ المقاومة الفلسطينيّة الشرسة في غزّة، فاقمت أزمة الإمبراطوريّة الأمريكيّة وحلفائها.
ولكن لا يصحّ اختزال الأزمة في شخص ترامب، بل أساسًا في قاعدته الانتخابيّة ذات التوجّهات الخطيرة، وخاصّة شريحة المسيحيّين الصهاينة، الّتي لا يتوقّف تمدّدها باختفاء ترامب أو أيّ قياديّ آخر، إضافة إلى بنية النظام النيوليبراليّ التوسّعيّ غير الاجتماعيّة وغير الإنسانيّة.
[ad_2]
Source link